إلي رحمة الله

 

الشيخ ناصر علي الندويّ رحمه الله

 1353-1428هـ = 1934-2007م

 

 

  

 

  

 

 

       في نحو الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة: 14/جمادى الأولى 1428هـ الموافق 1/ يونيو 2007م انتقل إلى رحمة الله تعالى بمدينة «لكهنؤ» المحدث الشيخ ناصر علي الندوي رحمه الله شيخ الحديث بدارالعلوم ندوة العلماء بلكهنؤ، إثر غيبوبة مَرَضيّة أصابته جرّاءَ حادثة اصطدام تَعَرَّض لها خلال نزهته الصباحيّة – بعد صلاة الفجر من صباح يوم الأربعاء 12/جمادى الأولى = 30/مايو – التي كان يمارسها كالعادة فنتجت عنها صدمة شديدة في رأسه ، فترامى على الأرض، فنَقَلَه شخصٌ لم يُعْرَفْ عنه إلى مستشفى بالمدينة . وما إن تَسَامَعَتْ بذلك عائلتُه، حتى نَقَلَتْه إلى مستشفى خصوصيّ ؛ حيث أُجْرِيَتْ عمليّة جراحيّة في رأسه في الليلة المتخلّلة بين الأربعاء والخميس : 12-13/ جمادى الأولى 1428هـ ؛ ولكنّه ظلّ في غيبوبة عميقة وفي صراع بين الحياة والموت ، حتى لَفَظَ أنفاسه الأخيرة ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

       كان الشيخ ناصر علي لدى وفاته في 73 من عمره ، وكان صحيحًا نشيطاً رغم كبر سنّه، لايعاني ما يعانيه أمثالُه من المُسِنِّين ، من الضعف والانهيار ؛ لأنّه كان مُتَعَوِّدًا المشيَ الطويل ، والتحركَ الفاعل ، والكدَّ بالجوارح ، مما ساعده على استيفاء أسباب الصحّة ، إلى جانب ما جُبِلَ عليه من طبيعة قنوعة لايَهُمُّهَا ما لايعنيه ؛ فاحتفظ بنفسه عن الشواغل الفكريّة الكثيرة التي تُعَجِّل الضعفَ الجسمانيَّ والذهنيَّ معًا ؛ ولكنَّ أجلَ الله إذا جاء لايُؤَخَّر ، وهو عادةً يحين ناشئًا عن سبب يحدثه الله بمشيئته . وهكذا كان مع الشيخ ناصر علي الندوي رحمه الله رحمة واسعة .

       قرأتُ حادث اصطدامه ووفاته في الصحف يومَ 2/ يونيو 2007م (السبت : 15/ جمادى الأولى 1428هـ) فحزنت كثيرًا حزنَ الرجل العارف عن كَثَبٍ بقيمة رجل مات يجمع بين الفضائل الإنسانيّة الكثيرة إلى جانب علمه الغزير وعمله الكثير .

       طالت معرفتي به عندما كنتُ أستاذًا بدارالعلوم ندوة العلماء ؛ حيث ظِلْتُ أُعَايِشُه صباحَ مساءَ في أروقة فصولها الدراسيّة ذهابًا وإيابًا، أو خلال جلوسه إلى طاولةٍ في المكتبة المركزية للدار ينظر في كتاب أو خلال نزوله عن درّاجته البسيطة التي كان يمتطيها بشكل منتظم في رحلة الذهاب والإياب فيما بين الدار وبين قريته «خُرَّمْ نَكَرْ» الملاصقة لمدينة «لكهنؤ» والكائنة على مسافة نحو 9-10 ك م من المدينة آنذاك – وقدم صارت اليوم جزءًا منها إذ تَعَدَّتْها إلى مسافة شاسعة بعدها – أو خلال بعض جلساته الهادئة إلى بعض خُلّص أصدقائه الذين كان يرتاح إليهم كثيرًا فيَتَقَاسَمُ معهم المسَرَّاتِ والأحزانَ ، أمثال : الشيخ نورالحسن الحيدر آبادي القاسمي والشيخ بشير أحمد اللكهنوي رحمهما الله تعالى أستاذان بدارالعلوم ندوة العلماء . وما رأيتُه قطُّ عبر تدريسي بالدار مع غيرهما إلاّ نادرًا . وكان يجمع بينه وبينهما ما كان يمتاز به من البساطة والعفويّة : الصفتين اللتين كان هو غايةً فيهما . والطّيرُ على أشياعها تقع .

       وجدتُه مطبوعًا على البساطة والكدّ والجدّ والكراهية لحبّ الظهور والجاه والمال ، وقليلَ التَّشَكِّي للمُهِمِّ بصيبه ، وقليلَ الأماني الدنيويّة ، وكبيرَ الاهتمام بجانب العلم والمعرفة ، وكثيرَ الاجتهاد في تحضير الدروس التي كان يُلْقِيها أمامَ طلاّبه ، ودائمَ النظر في الكتب والموادّ التي كان يُدَرِّسُها تلاميذَه . وكان حَاضِرَ البديهة ، ذكيًّا مُتَفَتِّح العقل ، ترقصُ الابتسامةُ على شفتيه ؛ فما رأيتُه عَبُوسًا مُقَطَّبَ الجبين . حياتُه المتواضعة وَفَّرَت عليه الوقتَ لينقطع إلى الدراسة والتوفّر على المطالعة ؛ فكان عالماً متضلِّعا ومُدَرِّسًا مُتَمَكِّنًا؛ فكان كبيرَ القدرة على إقناع التلاميذ ؛ ولذلك كان تلاميذه مُعْجَبين به إلى جانب الإعجاب بأخلاقه ، التي حَبَّبَتْه إلى الناس جميعًا ، حتى ما كان له عدوٌّ أو مُبْغِض ؛ لأنّه كان هَيِّنًا لَيِّنًا يألفه مُلاَقِيه لأوّل وَهْلَة . ولم يكن له شغلٌ غير الدراسة والتدريس ، اللذين أصبحا له وظيفةً وحيدةً في الحياة ، تَفَرَّغَ لها ، وعاش فيها ، وحرص عليها .

       كان مواظبًا على أوقاته ومجتهدًا في الدراسة – كما أكّد عدد من أساتذته بعد وفاته وكثير من زملائه في التعلّم – في أيام التعلّم كذلك ؛ فكان ينجح في الامتحانات النظامية دائمًا بالدرجة الأولى . وكان يتأدّب كثيرًا مع كل عالم ومتعلّم، فضلاً عن أساتذته الذين كان يخدمهم كثيرًا ويتواضع لهم مخبريًّا ومظهريًّا ؛ فكان يكسب حبهم ويستحق دعاءهم ، ويقتني السعادةَ الحقيقيةَ الباقيةَ ، التي شَمِلَتْ حياتَه القادمةَ كلَّها بالنور والسرور والحبور .

       وكان معروفًا مذكورًا على الألسنة بحضور الفصل على الميعاد الحصصيّ لايتأخّر عنه بدقيقة واحدة ، رغم أنه كان يحضر من قريته الواقعة على مسافة 9-10 ك م من المدينة . وتلك صفة لايتعامل معها بدقة إلاّ الرجال المتمتعون بالشعور الكافي بالمسؤولية ؛ لأن ذلك يحتاج إلى العمل بانضباط تامّ وبرمجة دقيقة لأوقاتِ كلّ وظيفةٍ من وظائف الحياة ؛ فلا يتمكن منه إلاّ ذو إرادة غير عاديّة ،وأصحابُها قليلون جدًّا . عامّةُ الناس لايُحْسِنُون إلاّ التعاملَ مع الفوضويّة في مشاريع الحياة ؛ فيصنعون كلَّ شيء في كلّ وقت ، ويقومون بالأعمال مُتَدَاخِلاً بعضُها في بعض؛ فلا يَحْسُنُ هذا ولا ذاك .

       كان من مواليد عام 1934م (1353هـ) وتخرّج من دارالعلوم ندوة العلماء عام 1957م (1376هـ) وانتخب عام 1958م (1377هـ) معيدًا ثم مدرسًا فيها يقوم بتدريس شتى الموادّ الشرعيّة ، التي كان ميّالاً إليها منذ أيام تعلّمه ؛ فأمضى في وظيفة التدريس فيها نحوَ نصف قرن . وكان قد انقطع إلى تدريس مادة الحديث والفقه منذ مدة غير قصيرة ، ثم عُيِّنَ 1989م (1409هـ) «شَيخَ الحديث» بها ، فتَفَرَّغَ لتدريس «صحيح البخاري» وبقي على ذلك حتى وافاه الأجلُ . وكان من تلاميذ فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي أمين عام ندوة العلماء حاليًّا، واستفاد من الداعية الإسلامي الكبير فضيلة الشيخ محمد منظور النعماني رحمه الله (المتوفى 1418هـ / 1997م) حيث كان أيام تعلمه في دارالعلوم ندوة العلماء أستاذًا فيها لمادة الحديث ، كما كان من تلاميذ فضيلة الشيخ المفتي محمد ظهور الندوي رئيس المفتين بدارالعلوم ندوة العلماء حاليًّا .

       تركت وفاتُه فراغًا لايُمْلأُ – فيما أعتقد – في درالعلوم ندوة العلماء فيما يتعلق بتدريس مادة الحديث ، بهذا المستوى الرائع ، الذي كان يُعْرَفُ به هو ؛ حيث إن المدرسين الأكفاء أمثاله لا تُخَرِّجُهم الأيام بسهولة ، ولاسيما في هذا العصر السيّار الذي يُعْرَفُ بتسرّعه في كل شيء، فلا يلوى إنسانُه على شيء ولا يتوقف ، ولايتأنّى ولايتمهّل ؛ فلا يجد فرصة لإتقان علم وفن وإنضاج الكفاءة العلمية ، ولايكاد يجد فرصةً تَدَعُه يجعل أهليّتَه التدريسيّة تختمر بشكل مطلوب؛ فلا يمتاز بالتعمق ، وإن امتاز بالشمول السطحيّ ، الذي تُسَاعِده عليه ثورةُ المعلومات وانفجارُ المعارف . الأمرُ الذي هو سمةُ العصر، وعنوانُ الحاضر، وشعارُ إنسانه الذي عاد يَتَهَالَكُ على المادّة والمعدة وحدهما .

       مات الشيخ ناصر علي رحمه الله ، فترك وراءه ذكرى لمدرس مُتْقِنٍ للعلم ، ومُتْقِنٍ للمهنة التدريسية ، ومُتْقِنٍ لكفاءة التلقين والإلقاء والتفهيم ، وذكرى لمـُحدِّث لم يكن نظيره كثيرًا في حياته ، فكيف به بعد مماته ، وذكرى لرجل لديه رصيد ثرّ لاينفد من الخلق الإسلامي ، والشرف الإنساني ، والكرم الإيماني ، والسمو الروحاني ، دون أن يحاول أن يتظاهر بشيء من ذلك أو يقوم بتسويق له على طريقة كثير من المُتَعَالِمِين المُتَخَلِّقِين ، المُفْلِسين في الواقع في كلّ من العلم والأخلاق .

       بساطتُه وعفويتُه وطلاقةُ وجهه وابتسامةُ شفتيه وجهلُه المطلقُ بفن التصنّع جَعَلَني أُحِبُّه حبًّا استقرّ في قرارة نفسي بشكل هادئ لم أنتبه له إلاّ بعد ما بعدتُ عنه ، وزدتُ انتباهًا له بعدما فقدتُه، وأشعر بحرارته وأنا أكتب عنه اليوم هذه السطورَ المتواضعةَ التي أُحِسّ حقًّا أنها لن تفي بحقه ؛ بل لن ترتقي إلى مستوى ما يتطلبه حبّى له. رحمه الله وجَعَلَ الجنّةَ العليا مثواه . خَلَّفَ – رحمه الله – خمسة بنين وثلاث بنات إلى جانب زوجته. ألهمهم الله جميعًا الصبرَ والسلوانَ ، وكان وليًّا لهم بعد أن فقدوا الوليَّ المادّيَّ .

*  *  *

*  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1428هـ = أغسطس - سبتمبر  2007م ، العـدد : 8 ، السنـة : 31.